نحو فلسفة رياضياتية أدائية

 لنبدأ من سلافوي جيجك ونظريته في العلامة في قسيمها الدال والمدلول حيث يقدم جيجك نوعين من الأداء للعلامة:

الأول: أن يقوم الدال بوظيفة المدلول ويمثل عليه الفيلسوف السلوفاني بعندما أجتاز قبصر نهر الروبيكون في هذا اللحظة عندما قرار قراره الخطير الذي جعله عدو روما، نلغي السياقات ليصبح متعالي قيصر لم يجتز النهر بل اجتازه ليكون قيصر الرمز وليس الشخص الذي نستحضره عندما نتناقش عن أمبراطورية روما. ما يسميه لاكان الدال الفارغ الذي يصبح ذا معنى.

الثاني: أن يسقط الدال في المدلول وهو تماما العكس عندما يختفي المعنى ويكون فراغا ويمثل عليها بالذات التي يقول عنها لاكان أنه التي عليها أن تفترض ثم تفترض حتى تصبح هي الافتراض، عندها يصبح المحمول هو الحامل وتصبح الذات هي الفراغ الذي لا يمكن الوصول إليه.

لننسى النوع الأول لأننا ما يهمنا الآن هو النوع الثاني، المشكلة هنا أن جيجك يرى أننا لا يمكن أن نصل إليها وكأنها الفراغ الذي يومض بين دالتين لكن يقنعنا جيجك أن هذا شيء جيد لأننا عندما نجد هذا الفراغ ونصاب بخيبة الأمل "نفهم" ويتحول السلب إلى إيجاب فنعرف أن حقيقتنا في الخارج أو ما يصبه جيجك أن الحقيقة هو القناع الذي نلبسه أمام الماس. المشكلة الثانية عندي مع هذا التحليل هو اختزال الشعور بالخيبة فقط وكأننا لا نشعر إلا بهذا الشعور الوحيد لنتساءل مع جيجك أين ذهب السعادة والحماس والحب.

يوضوح جيجك كلامه بمثال قبر المسيح الذي يذهب إليه المسيحون ليحجوا فيجدوه فراغا هذه الخيبة الشعورية لو عمل الديالكتيك عمله السحري عليه ليغير وجهة النظر ليقول لك الديالكتيكي انظر إلى المسيحين المجتمعين هنا يتجسد المسيح.

إذا الحقيقة هناك قبر في داخلنا فراغ وشعور مختزل ليتحول بقدرة سحرية ما كان الأمر ضدك معك. يقول هيغل في "ظاهريات الروح": الروح تحول السلبية إلى ايجاب أعلى بالقيامة بعد الموت، تنظر الروح الى وجه السلبي وتتباطأ مع هذه القوه السحرية Zauberkraft التي تتحول الى وجود.

ما تقوم به الروح Aufhebung هي قد تكون أشبه بالخدعة السحرية التي يقوم بها لاعب الخفة في خدعة اخراج الطائر من القفص لكنه في الحقيقة العصفور الثاني غير الأول الذي مات عندما انحشر القفص عليه ليختفي تحت قطعة القماش، الروح مثل الساحر الذي يقدم خدعته المحكمة بترتيب دقيق بتضحية بحياة هذا الكائن الصغير. هناك حدث بدون جسد أو قبر فارغ بدون جسد لكن هذا لا يهم لأن الجماهير في الأخير ستصفق.

نريد الوصول إليه هذا الفراغ بعكس جيجك وطريقنا هي الرياضيات التي عند بيرس هي دراسة الفرضيات المحضة التي على ضوء نظرية جيجك نقول أنها الرياضيات هي أن تفترض ثم تفترض حتى تصبح هي الافتراضي، الافتراضي هي الفراغ السابق لكن يمكن الوصول إليه بشعور غير اختزالي وهو الشعور الذي يكتشف بخبرته التي هي إيماءات في حقل كلي التي سنشرحها فيما بعد.

قبل الأنتقال إلى القسم الثاني من هذه المدونة احب أختم كلامي برد هيغل على هايدغر بأن الموت كما يقول الأخير العائق النهائي الذي لا يمكن أن نتجاوزه، أنه تغيير في الوجهه النظر فقط فيكون العائق هو الشرط لإمكانه ولا يكون المعنى إلا بخلفية من الدمار.

الإيماءة

اعتمد أنا في هذا القسم على بحث الفيلسوف الإيطالي جوفاني مادالينا Giovanni Maddalena المعنون بـ"Gestures, Peirce, and the French philosophy of mathematics".

أولا الرياضيات ليست حدث كما يرى ألبرت لوتمان Albert Lautman الذي يرى تولدها الذاتي باستقلالية بمنهج متأثر بالهايدغرية بالتوليد الأبدي الأونطي للواقع كتحليل أنطولوجي للفكرة. وهذا ما يرفضه كافاليس Cavaillès بالقول أن البناء فعل وأن الرياضيات متأصلة في التقاليد دون بداية مطلقة وأن تكوينها يبدأ في الخبرة والتقاليد تبرر بالنجاح.

يوظف كافاليس الإيماءة يقوله: إلتقاط الإيماءة والقدرة على الاستمرار. البنية الرياضية تتعلق بمراسنا act ولا يمكن لهذا البناء أن يكون له وجود أنطولوجي منفصل عن الإبستمولوجي. الإيماءة ليست حدث لأن لها جانب معياري تقوم عليه  وجانب فيزيائي يحصل. بعبارة أخرى الإيماءة لها مكونات توسط تركيبي وعبور فضائي وربط بين نقاط خطاطي.

هذا التوسط أو القواعد تكون بتقاليد قابلة للتطور وليست مطلقة لها أثرها يقول كافالين: ضرورة التوليد مرتبطة بلحاظ النجاح والوجود الموضوعي مرتبط بفعالية المراس. الإيماءة كما قلنا تكون الخبرة وتشكل نواة لبنائية أو شكل من الواقعية العميقة.

يرى كافاليس أن تجربة الطفل المرحة غير مكتملة وإن كان يخبر الرياضيات حتى يعود الى الرجل المتمثل بالتقاليد، وأن الخبرة اليومية لا تعتبر مورد وهنا أعارض أنا هذا الكلام معتمدا على الكلام الذي سيأتي بالخبرة البراغماتية وأننا مهما كان بحثنا عميقا لن نتخلى عن البساطة وجرأة قلب الطفل الذي يجرء على الشعور الخيالي.

البعد الإيمائي للرياضيات يجعلنا نتساءل إذا كانت الرياضيات علما إنسانيا وليس هي ملكة للعلوم ولا أداة من الأدوات، يركز شاتليه Châtelet على سؤال: ما الذي يحصل؟ ما الذي يحصل عندما نرسم خطا، يستعيد شاتليه الحدث الهايدغري وإن كان بمعنى الجاهزية للحدث.

افتقار شاتليه للرؤية البراغماتية جعله يرى أن الخيال خارج خبرة الفرد والرد البراغماتي يقول أن عالم الإمكان المحض والعالم الضروري من مكونات مفهوم الخبره الحيوية لذا لا نبحث عن سريالية نعيشها خارج هذا الواقع الغني.

يظهر نجاح البراغماتية بأنها تؤسس الإيماءه على ازداوجية الرياضيات والحس المشترك، لا قبر فارغ ولا انطولوجيا مخيفة تلك الانطولوجيا التي مثل عند دولوز: لنعتبر حقل تجريبي واقعي يقع هناك عالم هادئ ومريح يظهر وجه مذعور ينظر إلى خارج الحقل لا يظهر على أنه ذات أو موضوع وهذا شيء جد مختلف كعالم إمكان وإمكانيه عالم مرعب وهذا الإمكان ليس أقل وجودا.

فنحن أمام خيارين إما روح تسحر الوجه وتجعل السلبية إيجابية وإما وجه مرعب يطرد الروح من الحقل بعرضيته المطلقة، يظهر الطريق الثالث البراغماتي برفض جازم أي فجوة بين التعقل وتمثيل التعقل. التعقل يحصل في ابداع الخطاطه، البنى السيميائية والظاهراتية للخطاطات هي الظروف اللازمة لتطور الحادث وفق القانون للعلاقات المختلفه ضمن العناصر السيمائيةوالظاهراتية أيضا.

عندما حلل بيرس EG الخطاطات الوجودية فهم أن أي تعقل هو تحول يحصل عبر التغيرات يضم في استمرارية، عندما نرسم نستخدم كل المقولات الظاهراتية (الأولانية والثانيانية والثالثانية) وكل أنواع السيميائية (الأيقونية والمؤشر والرمز). ما يسميه بيرس خط الهوية هي العلامة الكاملة، الإيماءة تزداد تأليفا وتكتسب معنى جديد بالأداء. وهي يدوية أي أنها تستخدم حركة يدك أنت لا غيرك رسما ووصلا للنقاط، إن كان الذهن لا يفكر إلا بالخطوط والنقاط كما يقول بيرس فهذا نتيجة أن اليد تبدع أفكارها برسم المخططات.

الرياضيات لا تحتاج إلى أساس لإعتمادها على نفسها في تقديمها نظام ابداعي مستقل يتولد أثناء الممارسة دون أي ترانسندالية أو أن تكون مطلقة بل متجذرة في التقليد الإنساني الذي يبدأ من جسده الذي لا يمكن أن يكون موضوعا بل علامة فارغة تولد الذات والمواضيع وتعطينا تجربة على أرضية وحافة الوجود.

ينتهي مالدلينا بثلاث نتائج: الأولى أن اليقينية الرياضية التي أطلقها كانط لا تزال في قلب المشروع الإبستمولوجي والثانية أن المسار البراغماتي المؤسس على الإيماءة هو الأكثر واقعية والثالث الاعتراف بالهوية عبر تغيرها في نطاقات: الممكن والضروري والفعلي.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

لماذا أرسم أو (الإبستيم الجمالي)

قصيدة "النقاء" للشاعر الأمريكي بيلي كولينز

الطوبيقا السسيتامية